هذه النميطة التعليمية هي مورد مرجعي للمحاضرين  

 

مرحلة المحاكمة وإصدار الحكم

 

ضمانات الأصول الإجرائية الواجبة في المحاكمة

إنَّ محاكمات قضايا الإرهاب كثيراً ما تكون معقدة جداً، وتشتمل على مقدار كبير من الأدلة التي ينبغي النظر فيها بخصوص الأحداث المدعى بوقوعها ضمن إطار المؤامرة الأوسع، عبر الحدود أو على امتداد فترة طويلة من الزمن. وقد تنشأ أيضاً جملة متنوعة من المسائل القانونية المعقدة أثناء محاكمة قضية من هذا النحو، بما في ذلك مسائل حماية الشهود، ومسائل كشف الأدلة الحساسة واستخدامها، وما إذا كان ينبغي استبعاد الأدلة المتحصل عليها بانتهاك ضمانات حقوق الإنسان. وعلاوة على ذلك، فإن خطورة التهم الشائع اقترانها عادة بجرائم الإرهاب تجعل العواقب الخطيرة شديدة جداً على المتورطين في قضايا الإرهاب. ومن ثم فإنَّ كفالة الإنصاف في الإجراءات القضائية في جميع المراحل، من خلال توفير الحماية الصحيحة لمعايير حقوق الإنسان، هي التزام بالقانون الدولي في قضايا الإرهاب أيضاً.

كما إن الكثير من الحقوق والمبادئ الأساسية نفسها، والتي تعد حاسمة الأهمية لكفالة المحاكمة المنصفة في مرحلة ما قبل المحاكمة، ودُرست في القسم السابق، هي مقتضيات واجبة التطبيق بقدر متساو على الإنصاف العام في عملية المحاكمة ذاتها. ولذلك، فإنه ما عدا ما يخص افتراض البراءة التي تُناقش على نحو إضافي هنا، يركِّز هذا القسم على ضمانات أخرى لم تدرس هنا بعد وتُطبق أثناء إجراءات المحاكمة، وما فتئت تعتبر مصدر قلق على وجه الخصوص أثناء الإجراءات القضائية لمكافحة الإرهاب: الاستقلالية والنزاهة القضائية، وكذلك الضمانات الإجرائية خلال سير المحاكمة.

ولكن ينبغي أن يذكر منذ البدء أنه على الرغم من أهمية هذه الضمانات فهي ليست مطلقة؛ فهناك تقييدات جائز فرضها على بعض الحقوق، ومنها مثلاً: أن هوية الشاهد لا يجوز كشفها إلا في اللحظة الأخيرة بغية حماية الشهود من التعرض للتخويف، مما يقيِّد من حق الدفاع في أن يُوفر له الوقت الكافي والتسهيلات الملائمة لاستجواب الشهود. وكذلك فإن انتهاك إحدى ضمانات حقوق الإنسان في إحدى الحالات لا يعني حتماً أن المحاكمة لا يمكن أن تكون منصفة إجمالا. ومن ثم سوف يكون الأمر متروكا للمحكمة لكي تقرر ما إذا كان يتسنى علاج أي إجحاف محتمل وحماية الانصاف في المحاكمة بكُليتها.

وحرصاً على الإحاطة التامة، ينبغي أن يُذكر بإيجاز هنا وجود مبادئ وعوامل هامة أخرى، يمكن أن تؤثر في إنصاف إجراءات المحاكمة. ومن ذلك أن المحاكمة ينبغي مباشرتها في غضون فترة زمنية معقولة عقب اعتقال الشخص المتهم و/أو إبقائه في عهدة سلطة الاحتجاز. وهذا الاشتراط كثيراً ما يمكن أن يكون إشكاليا في القضايا ذات الصلة بالإرهاب، وذلك من جراء التعقيد المتأصّل فيها وكذلك طابعها العابر للحدود الوطنية في كثير من الأحيان؛ ومن ذلك مثلاً تسيير شؤون التحقيقات المتعددة الولايات القضائية، وما يتصل بذلك من التحديات التي تقترن بحماية هوية الشهود وتدابير أمن حضورهم أثناء المحاكمة.

وثمة عامل آخر يُحتمل أن يكون بالغ الأهمية، غير منصوص عليه في إطار أحكام النصوص الدولية أو الإقليمية الخاصة بالمحاكمة العادلة، المدروسة في هذه النميطة التعليمية؛ وهو عامل ذو صلة بالأهلية المهنية لمسؤولي التحقيق والادعاء والدفاع والقضاء المشمولين في قضية معينة. ومع أن مفهوم 'الأهلية' مشار إليه ضمن بعض الأحكام ذات الصلة، فإن هذا يشير إلى الأهلية القانونية للمحكمة أو الهيئة القضائية لا إلى الأهلية المهنية للمسؤولين الرئيسيين المشمولين في عملية العدالة الجنائية. ومن الواضح أن عوامل، مثل الأخطاء الإدارية أو الشرطية أو القانونية، أو انعدام الخبرة في هذا الصدد أو عدم كفاية التدريب المهني، يمكن أن تؤثّر كلها سلبيا على توافر وفعالية الحقوق والضمانات الإجرائية التي ينص عليها القانون. ومن ثم فإن ضرورة التعليم الجيد النوعية والتطوير المهني المستمر للقضاة والمدعين العامين والمحامين، تُعد مسألة طالما سُلط عليها الضوء مرارا وتكرارا في وثائق عدة، ومنها تقرير المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية باستقلال القضاة والمحامين (تقرير الجمعية العامة A/71/348؛ والجمعية العامة، تقرير مجلس حقوق الإنسان A/HRC/35/31). ولمثل هذه الأسباب، فإن من المهام الوظيفية الأساسية المنوطة بمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدِّرات والجريمة، وضمناً فرع منع الإرهاب، العناية بمضاعفة القدرة التقنية لهؤلاء المسؤولين التابعين للدول، وعندما يلزم ذلك من خلال طائفة عريضة من المواد والأنشطة المتنوعة الخاصة ببناء القدرات.

 

المحاكمة أمام محكمة مستقلة حيادية

إن المحاكمة من قبل محكمة مستقلة حيادية حق إنساني أساسي، وهو مضمون في المادة 14 (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، التي تنص على أن "من حق كل فرد، لدى الفصل في أية تهمة جزائية تُوجه إليه ... أن تكون قضيته محل نظر منصف وعلني من قبل محكمة مختصة مستقلة حيادية (غير منحازة)، منشأة بحكم القانون". وهذا الحق محمي أيضاً بعبارات مشابهة، في المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمادة 8 (1) من الاتفاقية الأمريكية، والمادتين 7 و26 من الميثاق الأفريقي.

ومما له دلالة هامة أن اللجنة المعنية بحقوق الإنسان شددت على أنَّ الحق في أن تكون الهيئة القضائية المعنية مستقلة وحيادية ومختصة حق مطلق لا يخضع لأي استثناء، حتى في وقت الحرب أو أثناء حالات الطوارئ (التعليق رقم 32، CCPR/C/GC/32، الفقرة 19). وتبعاً لذلك، فإنَّ "هذا الحق [في محاكمة عادلة] لا يمكن تقييده ويتعارض معه صدور أية أدانة جنائية عن جهة لا تعتبر هيئة قضائية ..."، كما إن "مفهوم 'هيئة قضائية' ... يعني هيئة منشأة بحكم القانون ومستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية أو تتمتع في بعض الدعاوى باستقلال قضائي يمكنها من البت في مسائل قانونية بواسطة إجراءات ذات طابع قضائي" (الفقرة 18).

وهناك مبدآن جامعان، وهما:

الاستقلال : يقتضي الاستقلال أن تكون المحاكم أو الهيئات القضائية التي تتولى المحاكمة بشأن القضايا الجنائية مستقلة بنيوياً ومؤسسياً عن السلطة التنفيذية، وكذلك غير خاضعة للتدخل السياسي من جانب الفرع التنفيذي والفرع التشريعي في الدولة. وهذا يقتضي وجود ضمانات قائمة، مثلاً بخصوص الإجراءات والمؤهلات المطبقة في تعيين القضاة، وكذلك ضمانات فيما يتعلق بضمان مدة الخدمة في مناصبهم.

الحياد : هناك عدة مقتضيات تفرضها فكرة الحياد (عدم التحيز). فأولاً، يجب على القضاة عدم السماح بتأثر حكمهم بالمحاباة أو التحامل على نحو شخصي، ولا إضمار تصوّرات مسبقة بخصوص قضية معينة معروضة أمامهم. كما يقتضي الحياد ألا تستند أي إدانة إلا إلى أدلة إثباتية مقدمة إلى المحكمة، وكذلك إلى الوقائع التي تتبين المحكمة ثبوتها. وإضافة إلى ذلك، لا يجب أن تكون الهيئة القضائية حيادية فحسب، بل يجب أيضاً أن تكون ظاهرة لعيان أيّ ملاحِظ حصيف بأنها حيادية.

وهذان المبدآن مترابطان. وعلى سبيل المثال، في قضية كامبل وفل ضد المملكة المتحدة ( Campbell and Fell v. UK)، تبينت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنّ اشتراط الاستقلال يستتبع وجود ضمانات فيما يتعلق "بطريقة تعيين القضاة، ومدة توليهم مناصبهم، ووجود كفالات تدرأ الضغوط الخارجية، وكذلك بالسؤال عما إذا كان يتبدى في الهيئة مظهر الحياد الواضح" (1984، الفقرة 78؛ انظر أيضاً مجلس أوروبا، لجنة الوزراء، 1994). ومما له دلالة هامة كذلك، بخصوص العناصر الموضوعية والذاتية، فإن المظهر الواضح، والوجود الفعلي، للحياد والاستقلال، كليهما له أهمية حاسمة (قضية كلين وآخرين ضد هولندا ( Kleyn and others v. Netherlands )، 2003، الفقرة 194). ولذلك، فإن المحاكمة، حتى في حال عدم وجود دليل يثبت وقوع إجحاف فعلي، قد يتبين مع ذلك أنها كانت مجحفة بناء على الافتقار إلى المظهر الواضح للحياد أو الاستقلال أو كليهما. (انظر أيضاً قضية فيندلي ضد المملكة المتحدة ( Findlay v. UK )، 1997،
الفقرات 75-80، بخصوص سياق المحاكم العرفية العسكرية).

وقد نشأت تحديات فيما يتعلق بهذين المبدأين في سياق مكافحة الإرهاب، حيث جرت محاكمة أشخاص متهمين بجرائم إرهابية أمام محاكم أو لجان خاصة أو عسكرية؛ وهذا من شأنه، في معظم الأحوال أن يخل بأحد هذين المبدأين أو بكليهما. ومما له دلالة هامة أن المقررين الخاصين المتعاقبين المعنيين باستقلال القضاة والمحامين قد أعربوا عن قلقهم "فيما يتعلق باستقلال القضاء في حالات الطوارئ ملاحظين أن المراسيم التي تصدر بإعلان حالة الطوارئ تعقبها كثيراً عمليات عزل جماعية لقضاة، مع إقامة المحاكم الخاصة، وتقييد أو تعليق وظيفة المراجعة القضائية" (انظر E/CN.4/1995/39، الفقرة 59 والجمعية العامة، تقرير مجلس حقوق الإنسان A/HRC/35/31، الفقرة 55).

وقد يكون ثمة عوامل أخرى تفعل فعلها في هذا الصدد، مما يزيد من الصعوبة التي يواجهها المسؤولون التابعون للدول المشمولون في إجراءات العدالة الجنائية الخاصة بالإرهاب، في سعيهم إلى الالتزام بهذه المعايير العالية المستوى. وقد يتخذ ذلك أشكالاً كثيرة؛ ومنها خصوصاً أن القضاة الذين يتولون محاكمة القضايا ذات الصلة بالإرهاب يمكن أن يواجهوا، في بعض الدول، مخاطر شديدة تهدد أمانهم الوظيفي أو حتى حياتهم، وذلك أحياناً من جانب مسؤولين تابعين لدول أخرى، حتى إذا كان يُتوقع من جميع المسؤولين أن يؤدوا عملهم ضمن الإطار القانوني في الدول التي يتبعون لها؛ أو في مناسبات أخرى من مصادر خارجية، ومنها مثلاً الجماعة الإرهابية التي ينتمي إليها الشخص الذي يُحاكم (أو الأشخاص الذين يُحاكَمون). وفي بعض الأحوال، يلجأ بعض البلدان، من أجل درء الاعتداءات الثأرية، إلى حجب القضاة الذين يُحاكِمون قضايا الإرهاب، وذلك بإخفاء هوية القضاة عن المدعى عليه وعن الجمهور. وعلى سبيل المثال، كانت هذه الوسيلة ممارسة شائعة في بيرو أثناء التسعينات، ومدعاة انتقاد شديد من قِبل جهات عدة، ومنها محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان واللجنة المعنية بحقوق الإنسان، حسبما ذكرت اللجنة في التعليق العام رقم 32 (CCPR/C/GC/32، الفقرة 23):

على الرغم من قيام هيئة مستقلة بالتحقق من هوية ووضع القضاة في هذه المحاكم، فمشكلتها غالباً ما لا تكمن في عدم الكشف عن هوية القضاة ووضعهم للأشخاص المتهمين فحسب، بل أيضاً فيما يحدث من تجاوزات، مثل استبعاد الجمهور أو حتى المتهمين وممثليهم من الإجراءات ... والهيئات القضائية المكونة من قضاة تُكشف أو لا تُكشف هويتهم لا تستوفي، في هذه الظروف، المعايير الأساسية للمحاكمة العادلة، وخصوصاً شرط أن تكون الهيئة القضائية مستقلة وحيادية.

وقد تؤدي عوامل أخرى دوراً أيضاً في هذا الصدد، وبخاصة وجود أي شيء قد يستدعي التساؤل عن حياد القضاء أو استقلاله، ومن ثم عن إنصاف الإجراءات القضائية، بما في ذلك الأخطار التي تتهدد سلامة القضاة، الناشئة من جراء القرارات القضائية، أو ربما فساد أعضاء الجهاز القضائي أو الموظفين المسؤولين عن إنفاذ القانون أو كليهما.

ومما يجدر بالملاحظة أن المقررين المتعاقبين المسندة إليهم ولاية المقرر الخاص المعني باستقلال القضاة والمحامين قد تبينوا وجود اتجاه صاعد مُقلق في هذا الصدد. وحسبما لوحظ في التقرير السنوي لعام 2017 (الجمعية العامة، تقرير مجلس حقوق الإنسان A/HRC/35/31):

53- ولاحظ المقرر الخاص في عام 1998 زيادة في الشكاوى المتعلقة بعدم امتثال الحكومات للمعايير المقبولة دولياً الخاصة بالإجراءات القانونية المطبقة حسب الأصول، لا سيما في الجرائم المتعلقة بالإرهاب، مما يثير التساؤل حول نزاهة واستقلال وحياد المحاكم (انظر E/CN.4/1998/39، الفقرة 182). وبعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في الولايات المتحدة بتاريخ 11 أيلول/سبتمبر 2001، أعلن المقرر الخاص أنه سيولي عناية كبيرة للآثار التي قد تولّدها أي تدابير تتخذها الحكومات على احترام سيادة القانون وإقامة العدل على النحو السليم (انظر E/CN.4/2002/72، الفقرة 28).

54- وأشار المقرر الخاص في وقت لاحق إلى وجود زيادة مستمرة في عدد الشكاوى من إخلال الحكومات بالضمانات القضائية المقبولة دولياً في حالة الجرائم المتصلة بالإرهاب. وهناك أيضاً زيادة مستمرة في المخاوف من انعكاسات تدابير مكافحة الإرهاب على احترام الشرعية (انظر E/CN.4/2004/60، الفقرة 58).

 

افتراض البراءة إبان المحاكمة

افتراض البراءة ضمانة حاسمة الأهمية أثناء مرحلتي التحقيق في الجرائم الإرهابية وكذلك أثناء مرحلة المحاكمة ذاتها. وأما أثناء مرحلة المحاكمة، فإن واحدة من أهم التبعات التي ينطوي عليها افتراض البراءة تخص عبء إثبات الاتهام ومعيار الإثبات. وحسبما بينت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في التعليق العام رقم 32 (CCPR/C/GC/32)، يقتضي افتراض البراءة في جميع المحاكمات الجنائية أن يقع عبء إثبات الاتهام على الادعاء لكي يثبت جميع العناصر الأساسية للجريمة. ومعيار الإثبات الذي يجب على الادعاء أن يقيم بناء عليه قضيته هو الاثبات "بما لا يدع مجالا للشك".

ولكن في بعض النظم القانونية، تعمل بعض القرائن المفترضة المعينة بحكم الواقع أو بحكم القانون خلافاً لما يتوخاه الشخص المتهم. وعلى سبيل المثال، يفرض بعض النظم القانونية، في سياق حيازة مواد متفجرة، افتراضاً قابلاً للدحض بأن الشخص كان لديه معرفة بتلك المواد حينما عُثر عليها في حيازته.

 

الضمانات الإجرائية إبان المحاكمة

توجد عدة ضمانات إجرائية أثناء مرحلة المحاكمة ذاتها لكفالة مراعاة الأصول الإجرائية القانونية الواجبة في المحاكمة.

 

إقامة العدل في دعوى علنية

هذا المبدأ يتساوى في الأهمية بالنسبة إلى المتهم وإلى الجمهور العام (وكذلك بالنسبة إلى ضحايا الأعمال الإرهابية وأقاربهم)، وذلك لكي يتسنى للطرفين أن يطمئنا إلى تطبيق معايير العدالة. كما أن من شأن الانفتاح للتدقيق من قِبل الجمهور أن يؤدي دوره بوصفه ضمانة إضافية، بغية درء الإجراءات غير السليمة. وهذا الحق مضمون في المادة 14 (1) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ، وكذلك في المادة 6 (1) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي المادة 8 (5) من الاتفاقية الأمريكية. ومع أنه لم يرد ذكر لهذه الضمانة في نص الميثاق الأفريقي، فإنها ضمانة منصوص عليها تحديدا في منشور اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، المعنون المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في أفريقيا (2003) (المبدأ 3).

غير أن اشتراط العلنية ليس مطلقا. وذلك أنه حيث يكون من الضروري حماية الشهود (علماً بأن احتياجات حماية الشهود لا يمكن تحقيقها بوسائل أخرى)، من الجائز إجراء مرافعات المحاكمة في جلسات مغلقة على الجمهور. وعلى نحو أعم، لا يجوز استبعاد الصحافة والجمهور من جلسات المحاكمة كلها أو بعضها إلا في الأحوال التي يحقق فيها ذلك غاية مشروعة. وبمقتضى المادة 14 من العهد الدولي المذكور، تقتصر هذه الغايات على حماية الآداب العامة أو النظام العام أو الأمن القومي أو مصالح أطراف الدعوى في الحرمة الخصوصية أو مصلحة العدالة. وغير مسموح عموماً فرض تقييدات لأي غرض آخر. وأي قيود من هذا النحو يجب أن تكون متناسبة وموجَّهة سعياً إلى بلوغ هدف مشروع، وحرصا على أهمية مبدأ العدالة العلنية.

 

حق المتهم في أن يُحاكم حضوريا

هذه الضمانة منصوص عليها في المادة 14 (3) (د) من العهد الدولي المذكور. وأما على الصعيد الإقليمي، فإنّ هذا الحق وارد في المادة 6 (3) (ج) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وفي المادة 8 (2) (د) من الاتفاقية الأمريكية. وينبغي القول مرة أخرى بأن هذا الحق، وإن لم يُذكر صراحة في حكم وارد ضمن نص الميثاق الأفريقي، مشمول ضمن المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في أفريقيا، الصادرة عن اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب (المبدأ 2). كما إن من الواضح أن الحق في حضور المحاكمة شخصيًّا عنصر أساسي جداً في عدالة إجراءات الدعاوى. فإنّ ذلك يُتيح أفضل نحو لكي يكون بمستطاع الشخص المتهم أن يعطي تعليماته على نحو واف لمحامي الدفاع، وأن يحدد النقاط التي يمكن بناء عليها الطعن في إفادات شهود الادعاء والأدلة الإثباتية، وأن يقترح مسارات مناسبة تُتَّبع في الاستفسارات. والواقع أن بعض الولايات القضائية، وخصوصاً بلدان القانون العام (الأنغلوسكسوني)، لا تسمح بمحاكمة المتهمين غيابيًّا. ولكن إذ قيل ذلك، فإنه بمقتضى القانون الدولي "قد يُسمح في بعض الأحيان بمحاكمة المتهمين غيابيا مراعاة لإقامة العدل كما ينبغي، وذلك على سبيل المثال، إذا رفض المتهمون ممارسة حقهم في الحضور على الرغم من إبلاغهم بالمحاكمة قبل وقت كاف" (التعليق العام رقم 32، اللجنة المعنية بحقوق الإنسان CCPR/C/GC/32، الفقرة 36، وانظر أيضاً مثلاً بلاغ اللجنة المعنية بحقوق الإنسان CCPR/C/OP/2).

 

حضور الشهود ومناقشتهم

تنص المادة 14 (3) (ه‍) من العهد الدولي المذكور على أن لكل متهم بجريمة الحق، أثناء النظر في قضيته "أن يناقش شهود الاتهام، بنفسه أو من قبل غيره، وأن يحصل على الموافقة على استدعاء شهود النفي بذات الشروط المطبقة في حالة شهود الاتهام". وتحتوي المادة 6 (3) (د) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان على حكم منصوص عليه بعبارات متطابقة؛ في حين أن المادة 8 (2) (و) من الاتفاقية الأمريكية تنص على "حق الدفاع في استجواب الشهود الموجودين في المحكمة، وفي استحضار - بصفة شهود - الخبراء وسواهم ممن قد يُلقون ضوءاً على الوقائع". ومع أن الميثاق الأفريقي لا ينص صراحة على الحق في استدعاء الشهود واستجوابهم، باعتبار ذلك جزءاً من الحق في محاكمة منصفة، فإن المادة 7 منه تنص ضمنا على هذه المقتضى، وهو منصوص عليه صراحة أيضاً ضمن المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في المحاكمة العادلة والمساعدة القانونية في أفريقيا (المبدأ 2). وأما المسائل المعينة ذات الصلة بالضحايا فتُناقَش على نحو إضافي في النميطة 14.

وحسبما أوضحت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، من الممكن وجود استثناءات من هذا المبدأ ولكنها يجب ألا تخل بحقوق الدفاع في أن يُتاح للدفاع فرصة وافية وصحيحة للطعن في أقوال شاهد الاتهام واستجوابه ( قضية الخواجة وطاهري ضد المملكة المتحدة ( Al-Khawaja and Tahery v. UK )، 2011، الفقرة 119). ويلاحظ عموماً، من جراء طابع الجرائم الإرهابية العابر للحدود، أنه يمكن أن يصعب على الادعاء والدفاع كليهما تأمين الحصول على إفادات الشهود، وكذلك حضور الشهود الفعلي في المحاكمة أثناء إجراءات المحاكمة.

 

استبعاد الأدلة بناء على موجِبات المصلحة العمومية

من المسائل المعينة التي أخذت تظهر بانتظام (ولكن ليس حصراً) في سياق محاكمات الجرائم الإرهابية، وذلك بسبب الطابع الحساس المتأصل على الأقل في بعض المعلومات التي تُجمع لإدانة الشخص المشتبه فيه، هي حالات لجوء الادعاء إلى طلب تطبيق إجراء استبعاد الأدلة الإثباتية بناء على موجِبات المصلحة العمومية.

وهناك بعض الاستثناءات المعينة من المبدأ القاضي بوجوب كشف جميع المواد، التي سوف يعوّل عليها الادعاء، للدفاع بغية الاستعانة بها في سياق القضية، وإن كان لا بد من توخي الكثير من الحذر في هذا الصدد. وقد لاحظت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أنه "في حين قد يكون الاستعمال المشروع لحصانة أسرار الدولة - مثلاً عندما يُحتج بها لاستبعاد أدلة بعينها قد يضر الكشف عنها بالأمن القومي بالضرورة - أمراً حرجاً لاعتبارات الأمن القومي، فإن إفراط بعض الدول في اللجوء إليه قد أدى إلى عدم المحاسبة، بما في ذلك على انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان"؛ وكذلك لاحظت أنه "أُعرب عن قلق بالغ أثناء النظر في دعاوى قانونية تتعلق بالإفراط في التعلل بأسرار الدولة في العديد من البلدان". (الجمعية العامة، تقرير مجلس حقوق الإنسان A/HRC/16/50، الفقرة 37).

وفي سياق المحاكمات ذات الصلة بالإرهاب، يجوز لدولة، في بعض الظروف المعينة المحدودة جداً، أن تمتنع عن تقديم معلومات أو أدلة إلى الدفاع إذا ما كان فعل ذلك من شأنه أن يعرِّض للخطر حقوق الغير (على سبيل المثال، تعريض حياة أحد المبلغين للخطر)، أو إذا كان من شأن كشف أدلة معينة أن يعرّض للخطر على أي نحو آخر مصلحة عمومية هامة، ومن ذلك مثلاً حماية الأمن القومي، أو كشف طرائق التحقيق التي تتبعها الشرطة أو أجهزة الاستخبارات.

وينبغي القول مرة أخرى بأن المحكمة سوف تسترشد بمبدأ الإنصاف العام للمحاكمة، بما في ذلك مقدرة المدعى عليه على تقديم دفاعه بكامله من دون الإفصاح عن بعض الأدلة أو المعلومات المعينة وتمحيصها، وكذلك بما إذا كانت الأدلة المجمعة من أدلة غير مُفصَح عنها، هي الأساس الرئيسي أو الجزئي الوحيد في قضية دعوى الادعاء الموجهة ضد المدعى عليه (انظر مثلاً قضية بيكوف ضد روسيا ( Bykov v. Russia )، 2009). وقد يُستنتج من ذلك أن إنصاف المحاكمة وكذلك حقوق الدفاع يقتضيان الإفصاح عن أدلة إثباتية معينة، وإن كان ذلك بمراعاة الضمانات المصاحبة لحماية المصلحة العمومية.

 

الحق في إعادة النظر في القضية من جانب هيئة قضائية أعلى

تنص المادة 14 (5) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن "لكل شخص أُدين بجريمة حق اللجوء، وفقاً للقانون، إلى محكمة أعلى كيما تعيد النظر في قرار إدانته وفي العقاب الذي حكم به عليه". وقد قُدّم مزيد من التوضيحات بشأن هذا المبدأ في السوابق القضائية التي ألمحت إليها اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في تعليقها العام رقم 32 (الفقرات 45-51)، ولا سيما ما يلي:

  • لا يكون الحق في إعادة النظر من جانب هيئة قضائية أعلى قد انتُهك إذا اعتبر قرار المحكمة الابتدائية نهائيا فحسب، بل كذلك إذا لم يكن بإمكان المتهم اللجوء إلى محكمة أعلى لإعادة النظر في إدانة صادرة عن محكمة استئناف أو محكمة عليا، عقب حكم بالبراءة صادر عن محكمة أدنى.
  • يجب أن تكون إعادة النظر من جانب محكمة أعلى تدبيراً جوهريًّا، يشمل كفاية الأدلة والقانون والإدانة وحكم العقوبة. كما أن إعادة النظر التي تنحصر في الجوانب الشكلية أو القانونية من الإدانة دون مراعاة لأي جانب آخر لا تُعتبر كافية. بيد أن ذلك لا يقتضي إعادة المحاكمة أو عقد "جلسة استماع"، إذا ما كانت الهيئة القضائية التي تضطلع بإعادة النظر قادرة على النظر في الأبعاد الوقائعية للدعوى.
  • لا يمكن أن يُمارس بفعالية الحق في المطالبة بإعادة النظر في الإدانة الصادرة إلا إذا كان من حق الشخص المدان الحصول على نسخة مكتوبة تبين حيثيات الحكم الصادر عن محكمة الموضوع.
  • يكتسب الحق في الاستئناف أهمية خاصة في الدعاوى التي تصدر فيها أحكام بالإعدام. ولا يمكن رفض تقديم المساعدة القانونية إلى شخص مُدان معوز يلتمس إعادة النظر في حكم بعقوبة الإعدام.

ولا بد من القول بأن الحق في إعادة النظر في حكم إدانة بواسطة محكمة أعلى غير منصوص عليه صراحة في الصكوك الإقليمية الخاصة بحقوق الإنسان؛ ولكن هذا المبدأ أصبح الآن مصونا ضمن نطاق المادة 6 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمادة 8 من الاتفاقية الأمريكية، وبخاصة من خلال أحكام السوابق القضائية لدى المحاكم التي تطبقها. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الحق يتبدى في المبادئ الأساسية والتوجيهية بشأن الحق في المحاكمة العادلة، (المبدأ 1)، الصادرة عن اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، وكذلك ضمن الاجتهادات القضائية المستمدة منها بذاتها. وقد شددت اللجنة الأفريقية على أن "الإغلاق مسبقا لأي سبيل للاستئناف لدى 'الأجهزة الوطنية المختصة' في الدعاوى الجنائية التي تُفرض فيها [عقوبات من نحو السجن المؤبد أو عقوبة الإعدام] ينتهك بوضوح المادة 7 (1) (أ) من الميثاق الأفريقي، ويزيد من المخاطر التي قد تؤدي إلى عدم الانتصاف حتى من الانتهاكات الخطيرة الشأن في هذا الصدد". وترتئي اللجنة الأفريقية أن الانتصاف القضائي هو فحسب من شأنه أن يلبي مقتضيات المادة 7 (1) (أ) من الميثاق الأفريقي.

 

مبدأ 'لا عقوبة إلا بقانون'

مما يقترن على نحو وثيق بمراعاة الأصول الإجرائية القانونية الواجبة في المحاكمة العادلة مبدأ 'لا عقوبة إلا بقانون'، الذي يُعد مبدأ جوهريا في العدالة الجنائية وضمانة أساسية جداً من التعسف. وهو مبدأ يكتسي أهمية بالغة لا يجوز معها الخروج عنه حتى "في وقت الطوارئ العامة التي تهدد حياة الأمة (المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والمادة 15 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، والمادة 27 (2) من الاتفاقية الأمريكية). كما يُحرِّم هذا المبدأ المقاضاة والمعاقبة على التصرف غير المحظور بوصفه جرما، وكذلك استحداث أحكام بشأن أفعال جُرمية أو التوسع في تلك الأحكام بمفعول رجعي. ويقتضي أيضاً أن تكون القوانين الجنائية مكتوبة بطريقة تجعلها ميسورة الفهم وقابلة للتكهن بها، وتقدم 'إخطاراً معقولاً' ينبه إلى ما هو التصرف المحظور.

كذلك يحظر المبدأ 'لا عقوبة إلا بقانون' إدخال تغييرات ذات مفعول رجعي على الجزاءات الجنائية على الأفعال الجرمية، بما في ذلك الجرائم الإرهابية. وحسبما هو مبين في المادة 15 (1) من العهد الدولي المذكور، لا يجوز فرض أي عقوبة تكون أشد من تلك التي كانت سارية المفعول في الوقت الذي ارتُكبت فيه الجريمة. ولكن إذا حدث بعد ارتكاب الجريمة أن صدر حكم قانوني ينص على فرض عقوبة أخف، وجب أن يستفيد مرتكب الجريمة من هذا التخفيف.

وأما التغييرات ذات المفعول الرجعي التي تُجرى على القانون الجنائي على نحو مخالف لمبدأ 'لا عقوبة إلا بقانون' فيمكن أن تكون نتيجة لصدور تشريع جديد. ويمكن أيضاً أن تكون، وربما كثيراً جداً ما تكون، نتيجة لحدوث تغيير في الممارسة القضائية المتبعة (انظر على سبيل المثال قضية ديل ريو برادا ضد إسبانيا (Del Río Prada v. Spain)، 2013).

 

الرجوع إلى البداية