هـذه الوحـدة التـعـليـميـة هـي مصـدر للمحـاضـريـن 

 

الموضوع الثاني - نظرة عامة على عمليات العدالة التصالحية

 

العدالة التصالحية عملية مرنة ومتجاوبة ثقافيًا ، وليست برنامجًا ثابتًا أو موحدًا ، حيث يناقش الطرفان بطريقة بناءة كيفية إحداث التغيير. المرونة والاستجابة من بين أهداف العمليات التصالحية ، على النحو المبين في المبادئ الأساسية (2000 ، الديباجة والمبدأ الأساسي 9).

منذ نشأتها ، برزت العديد من نماذج ممارسة العدالة التصالحية. يختلف نوع ومحتوى النماذج باختلاف المناطق والسلطات القضائية ، مما يعكس سياقاتها القانونية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

يمكن تصنيف برامج العدالة التصالحية بعدة طرق (انظر على سبيل المثال Zehr et al.، 2015 بشأن نماذج مختلفة). يتحدث البعض عن سلسلة متصلة من الإمكانات التصالحية ، تتراوح من "التصالحية بالكامل" إلى "التصالحية جزئيًا". يعتمد هذا على العديد من الميزات ، مثل مستوى مشاركة المتأثرين في العملية التصالحية ، أو درجة المساءلة التي توفرها العملية ، أو النتائج التي حققتها العمليات.

ويمكن تمييز نماذج العدالة التصالحية التالية، المنطبقة أساساً على الأطفال والكبار على السواء، في سياق العدالة الجنائية:

 

الوساطة بين الضحية والجاني

ظهرت الوساطة بين الضحية والجاني ، والمعروفة أيضًا باسم الحوار بين الضحية والجاني ، أو مؤتمرات الضحية والجاني أو برنامج المصالحة بين الضحية والجاني ، في السبعينيات وهي واحدة من أكثر نماذج العدالة التصالحية استخدامًا في نظام العدالة الجنائية (انظر إلى الضحية - الجاني) الوساطة في أوروبا ، Dünkel et al. ، 2015). على الرغم من تسمية الوساطة بين الضحية والجاني ، من المهم ملاحظة أن هذه الممارسة التصالحية تختلف عن الوساطة في مجالات أخرى ، مثل الوساطة المدنية والتجارية.

الوساطة بين الضحية والجاني هي لقاء بين الضحية والجاني ييسره طرف ثالث مدرب لمناقشة تأثير الجريمة والبحث عن طريقة لحل المشكلة. تبدأ عملية الوساطة بين الضحية والجاني باجتماعات منفصلة للميسر (الميسرين) مع الضحية والجاني لتقييم مدى ملاءمة القضية ولضمان أن الجاني مستعد لتحمل المسؤولية عن الضرر. ويلي هذه الاجتماعات التمهيدية محادثة مشتركة ، يمكن للأطراف من خلالها التعبير عن مشاعرهم ، ورواية قصصهم ، والتحدث عن كيفية معالجة الضرر. يمكن للطرفين جلب المؤيدين إلى عملية الحوار. غالبًا ما تتضمن الاتفاقيات الاعتذارات والتعويضات عن الضرر المادي أو غير المادي الذي حدث ورد الحقوق والخدمات للضحية. في كثير من الأحيان ، هناك ترتيب متابعة لمراقبة وفاء الجاني بالاتفاقات. في الغالب ، تتضمن الوساطة بين الضحية والجاني لقاءات وجهاً لوجه ، لكن الاجتماعات غير المباشرة ممكنة أيضًا ، عادةً بناءً على طلب الضحية.

 

مجالس مداولة الصلح

في حين أن عقد المؤتمرات كان يستخدم في البداية بشكل رئيسي في سياق قضاء الأحداث ، فإنه يستخدم الآن على نطاق واسع في القضايا التي تشمل المجرمين البالغين. عقد المؤتمرات هو عملية تتضمن دائرة أوسع من المشاركين من مجرد الجاني والضحية ، مثل أفراد الأسرة والأصدقاء وممثلي المجتمع. علاوة على ذلك ، غالبًا ما تكون أهداف المؤتمرات أوسع نطاقًا. بالإضافة إلى أهداف الوساطة بين الضحية والجاني ، تسعى المؤتمرات الجماعية أيضًا إلى: تمكين الجاني من إدراك تأثير الجريمة التي ارتكبها ليس فقط على الضحية وعائلاتهم ولكن أيضًا على أسرهم وأصدقائهم ؛ وإتاحة الفرصة لجميع الأطراف لإعادة العلاقات.

تم تطوير عقد المؤتمرات الجماعية العائلية لأول مرة في عام 1989 في نيوزيلندا ، ويستخدم في مجالات عدالة الشباب وحماية الطفل. فيما يتعلق بعدالة الشباب ، تشمل هذه العملية الجاني الشاب والأسرة والشرطة والضحية والأشخاص الداعمين. يسمح عقد المؤتمرات لأسرة الشاب، وكذلك الضحية ومؤيديهم، بالمشاركة بنشاط في عملية صنع القرار.

مثال: مجالس مداولات الصلح الأسرية في أوتياروا (نيوزيلندا)

في عام ١٩٨٩، اشترعت نيوزيلندا قانون الأطفال والشباب وأُسرهم؛ وأعيد لاحقاً تسمية القانون ليصبح قانون أورانغا تاماريكي لعام ١٩٨٩، أو قانون رفاه الأطفال والشباب لعام ١٩٨٩. وكان القانون إيذاناً بطفرة في الطريقة التي تعالج بها الدولة احتياجات الشباب المعرضين للخطر، ولا سيما في مجال قضاء الشباب ورعايتهم وحمايتهم. وأدى عدم الرضا عن طريقة تواصل الحكومة مع الماوري (الشعب الأصلي في أوتياروا) وتمثيلهم المفرط في نظام قضاء الشباب ورفاههم إلى إصلاح القانون الخاص بقضاء الشباب (Kingi et al., 2008). وسعى القانون الجديد إلى رسم اتجاه جديد في سياسة قضاء الشباب، استناداً إلى بعض المبادئ التوجيهية الواضحة، على النحو التالي:

  • ضرورة أن يُلتمس في أي قرار يتعلق بالطفل مشاركة وموافقة الأسرة الأوسع نطاقاً.
  • ضرورة تغليب حقوق الطفل ومصالحه.
  • ضرورة أخذ رأي الأطفال بشأن كيفية معالجة الجريمة التي ارتكبوها.
  • ضرورة منح الضحايا دوراً في عملية التسوية، إذا اختاروا المشاركة.
  • ضرورة أن يأتي فرض العقوبات الجنائية في مرتبة تالية لعملية يُجمَع بمقتضاها جميع الأطراف المتضررة في إطار مجلس لمداولات الصلح الأسرية لإيجاد الحلول عن طريق الحوار.

ويميِّز النهج الجديد بوضوح بين احتياجات الرعاية واحتياجات العدالة. وفي إطار معالجة احتياجات العدالة الخاصة بالأطفال، لا بد من إعطاء الأفضلية للممارسات التعاونية التي تركز على إيجاد الحلول وتعالج الأسباب الجذرية للسلوك.

وتتمثل آلية إبعاد الأطفال عن المحكمة أو الاحتجاز، مع استمرار تحميلهم المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبوها، في مجلس مداولات الصلح الأسري، وهو اجتماع لأفراد الأسرة، بمن فيهم الشباب، إلى جانب اختصاصيين عاملين في مجال العدالة والرعاية الاجتماعية. ويكون المجلس مكلَّفاً بوضع توصيات لمعالجة احتياجات الطفل على نحو تأهيلي. ويجب أن يراعي أيضاً احتياجات الضحايا، الذين توجَّه إليهم الدعوة لحضور المجلس، وإن كان القصد الأصلي من هذا التدبير هو تبديد أي شواغل قد تنتاب الجمهور بشأن اتسام العملية بالتساهل المفرط. ويعقد المجلسَ منسقٌ لمجلس مداولات الصلح الأسري يضطلع بدور قانوني مستقل في هذه العملية. وفي الواقع، فإن الدولة تفوِّض، من خلال هذه الآلية، جزءاً من سلطتها في صنع القرار فيما يتعلق بالجاني وبمجتمع الرعاية المحيط مباشرةً بالجاني.

وقد استمد مجلس مداولات الصلح الأسري بعض عناصره من التقاليد الماورية، وخصوصاً تركيزه على دور الأسرة الموسَّعة. غير أن الماوريين أنفسهم لم يكونوا الطرف الذي صممه، كما أنه لا يهدف إلى استعادة العمليات العرفية. فهو يقدم بالأحرى وسيلة قانونية لمشاركة الماوريين في تلبية احتياجات أطفالهم. وتشمل المبادئ الأساسية لعملية مجلس مداولات الصلح الأسري ما يلي:

 
Figure 1: Stages of the conferencing process

 

عمليات المجالس العرفية الدائرية

تنطوي عمليات المجالس العرفية الدائرية على طائفة أوسع من المشاركين في عملية صنع القرار، وتستند إلى قيم مثل الاحترام والن‍زاهة والثقة والمساواة. (للاطلاع على معلومات إيضاحية بشأن عمليات المجالس العرفية، انظر Pranis, 2005؛ وللاطلاع على لمحة عامة مقارنة، انظر Zinsstag et al., 2011). ويتولى تيسير انعقاد المجالس العرفية واحد أو اثنان من "أمناء المجالس العرفية" المدرَّبين. ويتفق المشاركون على القيم والمعايير التي توجِّه العملية. وتُمرَّر "قطعة التناوب على أخذ الكلمة" - وهي غرض مادي كثيراً ما يكون ذا مغزى بالنسبة إلى المجموعة أو الميسِّر - من شخص إلى آخر بما يمنح حق التكلم دون مقاطعة لكل مشارك.

ويرمز التموضع الدائري للمشاركين إلى المساواة فيما بينهم، في حين أن قطعة التناوب على أخذ الكلمة تتيح للجميع المشاركة بالتساوي في المداولات دون مقاطعة. وتُعتبر هذه المجالس العرفية عمليات شديدة الفعالية لمعالجة الاختلالات في موازين القوى وتحقيق نتائج تعاونية.

Figure 2: Circle processes

ويمكن استخدامها في مجموعة متنوعة من البيئات داخل نظام العدالة الجنائية أو خارجه. وفي المسائل الجنائية، تُستخدم المجالس أيضاً في وضع خطة للتصدي للجريمة والأسباب الكامنة وراءها. وقد يشارك في عمليات المجالس العرفية الضحايا والجناة ومؤيدوهم وأفراد المجتمع المحلي والمهنيون العاملون في مجال العدالة.

وقد استُحدثت عمليات المجالس العرفية (المعروفة في الغالب باسم مجالس صنع السلام أو لأم الجراح أو إصدار الأحكام) في كندا ولاحقاً في الولايات المتحدة لتنفيذ العمليات البديلة لإجراءات المحاكم والحد من ارتفاع نسبة المجرمين من السكان الأصليين في السجون. واستناداً إلى عمليات المجالس العرفية التي تستخدمها المجتمعات الأصلية أو المحلية الأمريكية في أشكال مختلفة، فإن المجالس العرفية تشدد على تمكين المجتمع المحلي وإشراكه في صنع القرار. وتوضِّح المجالس العرفية الأربعة في "هولو ووتر" في مقاطعة مانيتوبا بكندا استخدام مجالس لأم الجراح كردٍّ جماعي على الضرر الذي عانى منه مجتمع محلي على مدى فترة زمنية طويلة.

وفي أستراليا، يُستخدم إصدار الأحكام في إطار المجالس العرفية في بعض المحاكم المحلية التي أُنشئت لتقديم بدائل ملائمة ثقافيًّا لمحاكم العدالة الجنائية التقليدية وإشراك المجتمعات المحلية الأصلية في إصدار الأحكام القضائية. وحيث إن المجالس العرفية تركز في المقام الأول على إعادة تأهيل الجاني، فهي لا يمكن أن تُعتبر تصالحية تماماً، لكنها تشمل عناصر تصالحية.

 

الأفرقة أو المجالس المجتمعية

تُستخدم الأفرقة أو المجالس المجتمعية لمساءلة الجناة الشباب أو من المستويات الدنيا بصورة مباشرة أمام مجموعة من ممثلي القبائل أو المجتمعات المحلية. وتهدف هذه العمليات إلى أن توفر للجاني الفرصة لتحمُّل المسؤولية بطريقة بنّاءة ومعالجة الأضرار التي لحقت بالضحية والمجتمع المحلي واحتياجاتهما. ويقرر الفريق أو المجلس المجتمعي فرض جزاء مناسب يمكِّن الجاني من جبر الضرر وتقديم شيء مقابل إلى المجتمع المحلي. فهي عملية تهدف إلى نواتج تعويضية تستند إلى مشاركة المجتمع القوية في عملية صنع القرار.

 

برامج بدلاء الضحايا

في الحالات التي يمتنع فيها الضحايا عن المشاركة المباشرة في العملية التصالحية لأسباب مختلفة، تقدم برامج بدلاء الضحايا الفرصة للاستعاضة عن الضحية بممثل مختار. وتتصرف الضحية "البديلة" نيابة عن الضحية لتجسيد احتياجاتها، ولتجسيد منظور الضحية في العملية التصالحية.

وكثيراً ما تُستخدم أنواع أخرى من البرامج البديلة في السجون أو المرافق العلاجية: على سبيل المثال، برامج التعاطف مع الضحايا وتوعيتهم. وفي هذه الحالات، يلتقي المجرمون بضحايا جرائم أخرى لاكتساب فهم أعمق لنوع الضرر الذي يكونون قد سببوه لضحاياهم، ولمعالجة خبراتهم مع مجرمين آخرين. ومن الأمثلة المعروفة "مشروع شجرة الجميز" الذي استحدثته الرابطة الدولية لزمالة السجون، وهو برنامج يُنفَّذ داخل السجون للجمع بين الضحايا وجناة غير متصلين بهم.

مشروع سيكامور تري (شجرة الجميز) عبارة عن برنامج تتراوح مدته بين خمسة وثمانية أسابيع يُنفَّذ في السجون في أكثر من ثلاثين بلداً في جميع أنحاء العالم، بما فيها أستراليا وألمانيا وأوكرانيا وبوليفيا
(دولة-المتعددة القوميات) والسنغال وفيجي وقيرغيزستان وكولومبيا ونيجيريا وهولندا والولايات المتحدة (مركز العدالة والمصالحة، بلا تاريخ). واستناداً إلى مبادئ العدالة التصالحية، يتيح البرنامج الفرصة للجناة للالتقاء بضحية جريمة لا علاقة لهم بها لتبادل الخبرات وفهم تأثير الجريمة. وتشجع الاجتماعات المباشرة الوصول إلى فهم أعمق بشأن آثار الجريمة، وتمهد الطريق أمام إجراء حوار بشأن المسؤولية ورد الحقوق والتعويض ولأم الجراح.

"مشروع سيكامور تري يجعلك تفكر حقًّا. وهو لا يشبه أي دورة أخرى التحقت بها. فهو يجعلك تفكر في المشاعر. وهو يتعلق بما هو داخل النفس. إنه يغير كيفية شعورك إزاء الضحايا. لقد سبق أن شاركت في برنامج مهارات التفكير المعزَّز، وهو برنامج سهل، فأنت تعلم جميع الإجابات قبل أن تشارك في البرنامج.كما أنه لا يغير أي شيء فيك. أما مشروع سيكامور تري فهو مختلف لأنه يدور حول ما هو بداخل نفسك." - أحد الجناة من إنكلترا وويلز (مركز العدالة والمصالحة، بلا تاريخ).

 

لجان الحقيقة والمصالحة

تستخدم بلدان مختلفة لجان الحقيقة والمصالحة لمعالجة فترة ما بعد ارتكاب جرائم واسعة النطاق من قبيل العنف السياسي، وانتهاكات حقوق الإنسان التي تجيزها الدولة، وإرث الاستغلال الاستعماري والاسترقاق. ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:

(أ) لجنة الحقيقة والمصالحة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا (١٩٩٥-٢٠٠٢)؛

(ب) لجنة الاستقبال والحقيقة والمصالحة في تيمور-ليشتي (٢٠٠٢-٢٠٠٥)؛

(ج) لجنة الحقيقة الرواندية، التي بدأت في عام ١٩٩٩ وجُعلت دائمة في عام ٢٠٠٢؛

(د) لجنة الحقيقة والمصالحة في بيرو (٢٠٠١-٢٠٠٣)؛

(ه‍) سعت مختلف لجان الحقيقة في الولايات المتحدة إلى معالجة الجرائم والمظالم المرتكبة بدوافع عنصرية (قاعدة بيانات عالمية بشأن تلك اللجان متاحة في الموقع الشبكي لمعهد السلام في الولايات المتحدة).

وفي حين أن ولاية كل لجنة حقيقة ومصالحة ترتبط بخصوصيات انتهاكات ماضية في كل سياق أو بلد، فإن تلك اللجان تنطوي عموماً على البحث والإبلاغ عن الانتهاكات المتعلقة بكل سياق أو بلد، وتوفر محفلاً للضحايا وأسرهم والجناة لإطلاع الآخرين على تجربتهم الشخصية. وهناك دراسات كثيرة حول ما إذا كانت مبادئ العدالة التصالحية مكمِّلة للجان الحقيقة والمصالحة الوطنية ذات الصلة، وما إذا كانت تتجسد فيها. (انظر، على سبيل المثال، Ame and Alidu (2010) للاطلاع على تحليل للجنة المصالحة الوطنية في غانا؛ وGade, 2013 للاطلاع على مناقشة حول العدالة التصالحية ولجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا؛ وGraybill, 2017 للاطلاع على دراسة لأبعاد العدالة التصالحية للّجنة في سيراليون). وتبين الدراسات من هذا النوع أنه في حين أن العدالة التصالحية ولجان الحقيقة والمصالحة كلتيهما تسعيان إلى تحقيق نتائج تنطوي على جبر الأضرار - وكثيراً ما يكون ذلك على أساس المبادئ والممارسات العلائقية التي تيسِّر تحاوراً صادقاً بشأن المخالفات والضرر وأهمية التعافي - فإن تعقيدات تلك اللجان تعني أنها تختلف اختلافاً تامًّا، نظريًّا وعمليًّا على السواء، عن العدالة التصالحية بالطريقة التي تُستخدم بها في المسائل الجنائية.

 

استخدام العدالة التصالحية في المسائل الجنائية

هناك تباين كبير في تنفيذ عمليات العدالة التصالحية في جميع أنحاء العالم. ويمكن التمييز بين هذه العمليات بدراسة مختلف الأدوار التي تضطلع به العدالة التصالحية فيما يتعلق بنظام العدالة الجنائية. ويجوز أن تُدمَج عمليات العدالة التصالحية في النظم القضائية، أو أن تشكل عنصراً من عناصر برامج التحويل خارج نطاق القضاء، أو أن تُستخدم خارج النظام القضائي (انظر دليل برامج العدالة التصالحية (UNODC, 2006)).

وهناك اختلافات أخرى في الطريقة التي تقدَّم بها خدمات العدالة التصالحية، بما في ذلك ما إذا كانت البرامج قائمة على المجتمعات المحلية أو الشرطة أو المحاكم، وما إذا كانت اللقاءات التصالحية ييسِّرها مهنيون أو مدرِّبون متطوعون.

 

استخدام نظام العدالة الجنائية في جميع المراحل

كما أُكد عليه في المبادئ الأساسية، يجوز أن تُستخدم برامج العدالة التصالحية في أي مرحلة من مراحل نظام العدالة الجنائية (٢٠٠٠، المبدأ الأساسي ٦)، بما في ذلك أثناء فترة ما قبل الاتهام (الشرطة)، والحبس الاحتياطي (الادعاء)، ومرحلة إصدار الحكم (المحكمة)، والمراحل اللاحقة لصدور الحكم

وبالمثل، فإن العديد من المعايير الإقليمية والولايات القضائية القُطرية تشجع على استخدام العدالة التصالحية في جميع مراحل الإجراءات الجنائية. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، يشترط قانون الإجراءات الجنائية (١٩٨٧، المادة ١٥٥(أ)) أن ينظر القضاة والمدعون العامون في الوساطة بين الضحية والجاني (ما يسمى Täter-Opfer-Ausgleich) في كل مرحلة من مراحل الإجراءات الجنائية، وأن يعملوا على استخدامها في الحالات المناسبة. وعلاوة على ذلك، فهو ينص على أنه ينبغي، في الحالات المناسبة، إبلاغ المتهم بإمكانية الوساطة بين الضحية والجاني في أول جلسة استماع يحضرها (قانون الإجراءات الجنائية الألماني، ١٩٨٧، المادة ١٣٦). وينبغي مراعاة جهود الجاني الرامية إلى تحقيق المصالحة مع الضحية عند تحديد العقوبة.

وفي جنوب أفريقيا، يتبنى قانون قضاء الأطفال (٢٠٠٨) بقوة مفهوم العدالة التصالحية، ويوفر مجموعة من الخيارات الخارجة عن نطاق القضاء والمتعلقة بالأحكام، بما في ذلك مجالس مداولات الصلح الأسرية والوساطة بين الضحية والجاني. ويهدف القانون، حسبما يُنص عليه في ديباجته، إلى توسيع وترسيخ مبادئ العدالة التصالحية في نظام العدالة الجنائية فيما يخص الأطفال المخالفين للقانون (قانون قضاء الأطفال لعام ٢٠٠٨ في جنوب أفريقيا، الديباجة). (للاطلاع على لمحة عامة عن العدالة التصالحية في مراحل إجراءات العدالة الجنائية في جنوب أفريقيا، انظر Skelton and Bartley, 2008).

وفي كثير من البلدان، غالباً ما تُطبَّق العدالة التصالحية في مرحلة ما قبل المحاكمة كشكل من أشكال الاستعاضة عن الملاحقة القضائية، وخصوصاً في الحالات المتعلقة بالأطفال. وينطبق ذلك في العديد من البلدان في أفريقيا، بما في ذلك أوغندا وجنوب السودان وليسوتو، حيث تُستخدم تدابير بديلة عن الملاحقة فيما يخص قضاء الأحداث تنطوي على تسوية الن‍زاعات استناداً إلى القانون العرفي (Kilekamajenga, 2018, p. 21). ففي أوغندا، على سبيل المثال، تيسِّر محاكم القرى المصالحة والتعويض ورد الحقوق والتنبيه وغير ذلك من سبل الانتصاف التصالحية لفائدة الأطراف، بينما في ليسوتو، تشمل العمليات التصالحية على المستوى الشعبي لجان قضاء الأطفال (Kilekamajenga, 2018, p. 21). وعلى الرغم من أن الممارسات التصالحية في كلا البلدين تُعتبر منطويةً على حماية حقوق الأطفال، تجدر الإشارة إلى أن النُّهُج التصالحية نادراً ما تتاح للمجرمين البالغين في أوغندا أو جنوب السودان أو ليسوتو (Kilekamajenga, 2018, p. 21). ورغم محدودية الدراسات المتعلقة باستخدام العمليات التصالحية في نظم العدالة الجنائية الأفريقية (Robins, 2009, p. 69)، فقد درس عدة باحثين سبل الاستفادة من الأحكام القانونية والممارسات العرفية القائمة من أجل زيادة استخدام العدالة التصالحية في المسائل الجنائية في أوغندا (Robins, 2009) وفي جمهورية تن‍زانيا المتحدة (Kilekamajenga, 2018).

مثال: محاكم المقاطعات في تن‍زانيا

لدى جمهورية تن‍زانيا المتحدة تاريخ طويل من المصالحة من خلال محاكم المقاطعات (Kilekamajenga, 2018, p. 22). وتعمل المحاكم على الصعيد المجتمعي، وتتألف من أربعة إلى ثمانية أعضاء منتخبين لتيسير الوساطة من أجل إعادة الوئام. ويجوز لجميع الأطراف المعنية وأسرهم الحضور وتقديم الأدلة. وتشمل آليات المساءلة التعويض ورد الحقوق والاعتذار والغرامات والعقوبات البدنية والخدمة المجتمعية (Kilekamajenga, 2018, p. 22). وتوجد حاجة إلى موارد إضافية وتدريب متخصص لضمان عمل محاكم المقاطعات كآليات فعالة للعدالة التصالحية (Kilekamajenga, 2018).

وتوصلت دراسة أُجريت مؤخراً لنظم قضاء الأحداث في الدول الأعضاء في رابطة أمم جنوب شرق آسيا (آسيان) إلى وجود تباين كبير داخل المنطقة بشأن استخدام نُهُج العدالة التصالحية في الحالات التي يكون فيها الأطفال متهمين بانتهاك القانون أو يكونون موضوع مزاعم في هذا الشأن أو يُتعرف عليهم بصفتهم الفاعلين (Raoul Wallenberg Institute, 2015, p. 10). وكما سبق تحديده فيما يتعلق بأوغندا وليسوتو، قد يحال الأطفال في بعض بلدان رابطة أمم جنوب شرق آسيا إلى الوساطة داخل قُراهم (Raoul Wallenberg Institute, 2015, p. 10). ويمثل هذا أحد التدابير الممكنة عندما يخالف طفل القانون في جمهورية لاو الديمقراطية الشعبية (Phochanthilath, 2013, p. 69)، وفييت نام (Ngoc Binh, 2013, p. 189)، على سبيل المثال. وفي المقابل، تخضع عمليات العدالة التصالحية لضوابط قانونية ومؤسسية في العديد من بلدان رابطة أمم جنوب شرق آسيا الأخرى (Raoul Wallenberg Institute, 2015, p. 10). فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٩٧، اعتمدت محكمة الأحداث في سنغافورة العدالة التصالحية نهجاً توجيهيًّا للأطفال المخالفين للقانون (Chan, 2013). ويجوز أن يحال الأطفال إلى مجالس مداولات الصلح الأسرية في الحالات التي تقرر فيها محكمة الأحداث أن ذلك سيصب في المصلحة الفضلى للجاني (Chan, 2013, p. 8). وفي الممارسة العملية، فإن من المرجح أن يحال الأطفال الذين يحظون بدعم جيد من الأسرة والذين ارتكبوا جرائم أقل خطورة إلى أحد مجالس مداولات الصلح الأسرية. وتجدر الإشارة إلى أنه في سنغافورة، لا تُعتبر مجالس مداولات الصلح الأسرية تدبيراً بديلاً عن الإجراءات القضائية إذ إن الإحالة تتوقف على الاعتراف بالذنب أو اكتشافه. ومع ذلك، فقد كانت للبرنامج آثار إيجابية، على النحو التالي:

السبب الرئيسي الذي قدمه الأحداث الجانحون لما يجعلهم يعتقدون أن مجالس مداولات الصلح الأسرية مفيدة هو أنها جعلتهم يدركون أنهم تسببوا في معاناة لوالديهم. وهذا جدير بالملاحظة بالنظر إلى أن أحد أهداف العدالة التصالحية هو التشديد لدى الجاني على البعد الإنساني لجريمته وعلى أن الآخرين قد يتأثرون بسلوكه (Chan, 2013, p. 10).

مثال: الوساطة بين الضحية والجاني في النمسا

في النمسا، يمكن استخدام الوساطة بين الضحية والجاني (ما يسمى Tatausgleich) كتدبير بديل عن الإجراءات القضائية قبل المثول أمام المحكمة أو أثناءه فيما يخص الجرائم التي لم تسفر عن وفاة شخص. ومن الشروط المسبقة الأخرى للاستعاضة عن الإجراءات القضائية ما يلي: الكشف عن وقائع وملابسات القضية على نحو واف؛ وموافقة الضحية على العملية؛ واستعداد المتهم لتحمل المسؤولية، واتخاذ التدابير اللازمة للتعويض عن الضرر.

والمدعون العامون هم الأمناء الرئيسيون في هذه العملية حيث يمارسون سلطتهم التقديرية لإحالة الحالات إلى العمليات التصالحية. وتحال الحالات إلى مقدم الوساطة الرئيسي بين الضحية والجاني، هيئة NEUSTART، وهي هيئة مستقلة تحت إشراف وزارة العدل تقدم المزيد من تدابير الخدمة المجتمعية. وفي الحالات التي يتم فيها التوصل إلى اتفاق والوفاء به، عادةً ما تُسقَط التهمة. وإذا رُفعت التهم إلى المحكمة، يمكن للقاضي أن يقرر إغلاق القضية بعد استكمال الاتفاق بنجاح. ويشارك الوسطاء في تدريب شامل لمدة أربع سنوات يديره المقدم الرئيسي للبرنامج (انظر Gombots and Pelikan, 2015).

ويقود مجلس أوروبا عملية وضع مجموعة من التوصيات والوثائق التي تشير إلى العدالة التصالحية في المرحلة اللاحقة لصدور الحكم. ومن الأمثلة على ذلك توصية مجلس أوروبا CM/Rec (2018) 8 الصادرة عن لجنة الوزراء إلى الدول الأعضاء بشأن العدالة التصالحية في المسائل الجنائية، والقواعد الأوروبية بشأن الأحداث الجانحين الخاضعين لعقوبات وتدابير (٢٠٠٨)، وقواعد السجون الأوروبية (٢٠٠٦). وبُينت أهمية العدالة التصالحية في المراحل اللاحقة من عملية العدالة الجنائية على المستوى الدولي في إعلان الدوحة بشأن إدماج منع الجريمة والعدالة الجنائية في جدول أعمال الأمم المتحدة الأوسع من أجل التصدِّي للتحدِّيات الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز سيادة القانون على الصعيدين الوطني والدولي ومشاركة الجمهور (المادة 5 (ي)). بيد أنه في الممارسة العملية، لا يزال هناك مجال لتحسين تطبيق الممارسات التصالحية في سياق السجون ومراقبة السلوك. وتتيح العدالة التصالحية في السجون إمكانات واعدة لتعزيز إعادة إدماج الجناة في المجتمع ومنع معاودة الإجرام والمساعدة على إقامة روابط اجتماعية مهمة وإشفاء غليل الضحايا (انظر Van Ness, 2007). وكشفت الأبحاث التي أُجريت على البرامج المطبقة في السجون أيضاً عن حدوث تحسن كبير في تعاطف السجناء مع الضحايا وتغييرات في المواقف إزاء السلوك الإجرامي (Feasey et al., 2009؛ Crocker, 2015).

ومن الأمثلة الجديرة بالملاحظة تنفيذ الممارسات التصالحية في السجون في بلجيكا. ويتاح برنامج "الوساطة من أجل الانتصاف"، الذي يركز على الجرائم الخطيرة، بما في ذلك الاغتصاب والسطو المسلح والقتل، في جميع السجون في بلجيكا. ويمكن أن يُستهل بناء على طلب السجين أو الضحية أو أسرة الضحية. وعلاوة على ذلك، في بلجيكا، اتُّخذت مبادرات لتنفيذ النموذج القائم على التصالح في نظام السجون، بما في ذلك التدريب لفائدة موظفي السجون ووضع برامج محددة في السجون (Aertsen, 2015).

 

التطبيق على الجرائم الخطيرة

في السنوات الأخيرة، كان هناك اتجاه متزايد لاستخدام العدالة التصالحية في الحالات التي تنطوي على جرائم خطيرة، بما فيها جرائم القتل أو الاعتداءات العنيفة الخطيرة أو الاعتداءات الجنسية أو العنف الجنساني. ووفقاً لما جاء في توصية مجلس أوروبا رقم ٨ لعام ٢٠١٨ بشأن العدالة التصالحية في المسائل الجنائية، ينبغي أن تكون العدالة التصالحية خدمة متاحة بصفة عامة. ويُفترض ألاّ يحول نوع الجريمة أو مدى خطورتها أو موقعها الجغرافي، في حد ذاته وفي غياب اعتبارات أخرى، دون عرض العدالة التصالحية على الضحايا والجناة (٢٠١٨، المبدأ الأساسي ١٨).

وفي العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم، لا يزال استخدام العدالة التصالحية يتسم في الغالب باقتصاره على الشباب والأطفال المخالفين للقانون أو الجناة لأول مرة أو مرتكبي المخالفات البسيطة نسبيًّا. بيد أن هناك أدلة متزايدة على أن عملية العدالة التصالحية يمكن أن تكون فعالة للغاية في الحالات التي تتعلق بجرائم خطيرة أو بمجرمين مرتبطين بأنماط الجرائم الخطيرة. وقد أظهرت الأبحاث أن العدالة التصالحية لها أبلغ الأثر في الحد من معاودة الإجرام لدى المجرمين الشديدي الخطورة والمعتادي الإجرام (Sherman et al., 2015).

وقد اتسم تنفيذ برامج العدالة التصالحية في الحالات التي تنطوي على جرائم خطيرة وعنيفة بالحذر الشديد. وهناك العديد من الأسباب لذلك، منها: (أ) الشواغل المتعلقة بسلامة الضحية؛ (ب) الحقيقة التي مفادها أنه كثيراً ما يكون هناك خلل في موازين القوى بين الجاني والضحية؛ (ج) الأثر الأليم الذي تخلِّفه الجريمة على الضحية، وكذلك القلق من أن عملية العدالة التصالحية نفسها قد تفاقم الصدمة النفسية؛ (د) الخوف من التعرض للأذى من جديد؛ (ﻫ) ضرورة تقييم الضحايا والتأكد من استعدادهم نفسيًّا للمشاركة في عملية للعدالة التصالحية؛ (و) نقص خدمات مساعدة الضحايا من أجل الدعم على سبيل المتابعة. وهذه الشواغل تكون حاضرة بوجه عام في حالات الجرائم الخطيرة، لكنها قد تنطبق على نحو مختلف رهناً بنوع الجريمة. ولذلك، فإن الضمانات القانونية والإجرائية بالغة الأهمية للتأكد من أن عمليات العدالة التصالحية لا تضر المشاركين فيها، وخصوصاً الضحايا.

 

العدالة التصالحية والعنف الجنساني

تذكر أسباب مماثلة لما ورد أعلاه عند تطبيق العدالة التصالحية في حالات العنف الجنساني. وهذا المجال ما زال يشهد جدلاً واسعاً نظراً للجوانب المتعلقة باختلالات القوة بين الضحية الناجية والجاني، والخوف من احتمال تلاعب الجاني بالعملية، والضغوط المحتملة على الضحية للمشاركة في عملية للعدالة التصالحية، والافتقار إلى الميسِّرين المدرَّبين تدريباً خاصًّا، والمخاطر الكامنة المتمثلة في إعادة الإيذاء (انظر Daly and Stubbs, 2006؛ وDrost et al., 2015).

وبناءً على ذلك، فإن المتطلبات الأساسية المتعلقة بسلامة الضحايا والطابع الطوعي والموافقة المستنيرة تُعتبر بالغة الأهمية عند تنفيذ عمليات العدالة التصالحية والتسوية البديلة للمنازعات. وتشير مختلف الصكوك الدولية إلى استخدام العدالة التصالحية في سياق العنف الجنساني، حيث تحدد شروط تطبيقها الآمن.

وتوصي اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة بعدم إحالة قضايا العنف ضد المرأة، بما في ذلك العنف المن‍زلي، تحت أي ظرف من الظروف إلى أي إجراء بديل لتسوية المنازعات، بما في ذلك الوساطة والمصالحة (اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، التوصية العامة رقم ٣٣). وتشدد اللجنة على أن أي استخدام لتلك الإجراءات ينبغي أن يخضع لتنظيم صارم، وألاّ يُسمح به سوى عندما يكفل تقييمٌ سابق يجريه فريق متخصص الموافقة الحرة والمستنيرة للضحايا/الناجيات وعدم وجود مؤشرات على مزيد من المخاطر على الضحايا/الناجيات أو أفراد أسرهن (اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، التوصية العامة رقم ٣٥). وعلى الرغم من تمايز عمليات العدالة التصالحية عن سائر العمليات البديلة لتسوية المنازعات، فإن الشواغل المذكورة أعلاه بشأن الاختلالات في موازين القوة والمخاطر التي تهدد الأمان والحاجة الماسة إلى الضمانات في الحالات التي تنطوي على العنف ضد المرأة، لها نفس القدر من الأهمية في عمليات العدالة التصالحية. ويجب أن يكون الموظفون مدرَّبين تدريباً خاصًّا للتعامل مع حالات العنف الجنساني. وقد أوصت لجنة وضع المرأة بأن تتخذ الدول الأعضاء التدابير التشريعية و/أو التدابير الأخرى الضرورية لمنع العمليات الإلزامية والقسرية البديلة لتسوية المنازعات، بما في ذلك الوساطة والتوفيق القسريان، فيما يتعلق بكل أشكال العنف ضد النساء والفتيات. وبالمثل، فإن اتفاقية مجلس أوروبا بشأن منع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المن‍زلي (٢٠١١)، التي تتضمن شرطاً بقيام الدول بمنع العنف ضد المرأة وحماية ضحاياه، تحظر الاستخدام الإلزامي للعمليات البديلة لتسوية المنازعات، بما في ذلك الوساطة والمصالحة. وتسمح المادة ٤٨ (١) باستخدامها بشرط أن تستند إلى الموافقة الحرة للضحية.

ويشجع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدِّرات والجريمة، في إطار تعزيز تدابير منع الجريمة والعدالة الجنائية لمواجهة العنف ضد المرأة، الدول الأعضاء على وضع مبادئ توجيهية بشأن استخدام عمليات العدالة التصالحية في سياق العنف ضد المرأة، مع العلم أن تدابير الحماية نفسها أو أكثر منها ينبغي أن تُتخذ لضمان سلامة الضحايا. وينبغي استبعاد الحالات الشديدة الخطورة، وينبغي أن يُطْلَع الضحايا بشكل كامل على العملية وأن يوافقوا عليها. وعلاوة على ذلك، ينبغي ألاّ تتم الإحالة إلى العدالة التصالحية إلاّ بعد توجيه الاتهامات واستحصال موافقة المدعي العام أو قاضي التحقيق (UNODC, 2014, p. 77).

وهناك أيضاً مجموعة من الدراسات التي تتناول التحديات العملية والإمكانيات المرتبطة بالعدالة التصالحية في حالات العنف العائلي أو الاعتداء الجنسي (انظر Daly and Stubbs, 2006؛ وKingi et al., 2008؛ Ptacek, 2010؛ وDaly, 2011). وتجمع تلك الدراسات على أن نموذج مجلس مداولات الصلح الموحد و"الجاهز" لا يُرجَّح أن يكون ملائماً لحالات العنف الجنساني ما لم يُعدَّل على النحو المناسب وما لم يكن الميسِّرون من أصحاب الكفاءة والخبرة في تلك الأنواع من الحالات (Daly, 2011). ولذلك، هناك حاجة للبروتوكولات والممارسات المتخصصة والمكيَّفة مع الحالات التي تنطوي على العنف الجنساني.

وفي السنوات الأخيرة، ظهرت مبادئ توجيهية للممارسات من هذا النوع. فعلى سبيل المثال، في عام ٢٠١٣، نشرت نيوزيلندا معايير العدالة التصالحية في الحالات التي تنطوي على العنف الأسري والعنف الجنسي، حيث نصت على ضرورة مراعاة ضمانات إضافية في تلك الحالات (وزارة العدل، ٢٠١٣؛ ٢٠١٨). وفي أوروبا، وضع مشروع "العدالة التصالحية في حالات العنف المن‍زلي"، الذي يموله الاتحاد الأوروبي وينسقه معهد فيروي-يونكر في هولندا، دليلاً للممارسين بشأن المعايير الدنيا للعدالة التصالحية في حالات العنف الذي يرتكبه الشريك الحميم (Drost et al., 2016). ويبين الدليل مبادئ مصمَّمة خصيصاً لتتناسب مع تعقُّد الحالات التي تنطوي على عنف الشريك الحميم، بما يكفل التعامل مع الضحايا على نحو يتسم بالأمان والكفاءة. (للاطلاع على دليل عملي بشأن العدالة التصالحية في حالات العنف الجنسي، انظر Mercer et al., 2015).

وفي الممارسة العملية، تعالج العديد من البلدان العنف الجنساني من خلال عمليات العدالة التصالحية. وتُعتبر النمسا مثالاً على الممارسة الجيدة في حالات العنف العائلي والعنف الجنساني حيث توفر معايير وأساليب عالية الجودة للتعامل مع هذه المسائل الحساسة. ويتولى تيسير الحالات وسيطان من الجنسين لديهما معرفة متخصصة بالعنف العائلي. ويرتبط نحو ٢٠ في المائة من حالات الوساطة بين الضحية والجاني بمسائل تتصل بعنف الشريك (انظر Haller and Hofinger, 2015؛ Drost et al., 2015). وفي فنلندا، تُستخدم الوساطة بين الضحية والجاني في حالات العنف المن‍زلي منذ ثمانينيات القرن العشرين. ومعظم الوسطاء هم من غير المتخصصين، بل هم متطوعون مدرَّبون وذوو معارف محددة بشأن العنف المن‍زلي. ويُعتبر التعاون المشترك بين الوكالات فيما بين مقدمي خدمات الوساطة والشرطة والمدعين العامين من الأمور الفعالة (انظر Drost et al., 2015؛ وLünnemann and Wolthuis, 2015).

وتشير الأبحاث في مجال العنف الجنساني والعنف المن‍زلي إلى تحقيق نتائج واعدة بشأن: (أ) رضا المشاركين في عمليات العدالة التصالحية؛ و(ب) قدرة الضحايا على عرض حججهم؛ و(ج) الاعتراف بالضرر الذي تعرضوا له؛ و(د) كفالة شعورهم بتطبيق العدالة (Kingi et al., 2008؛ وLiebmann and Wootton, 2010؛ وJülich and Landon, 2013؛ ووزارة العدل في نيوزيلندا، ٢٠١٦). (للاطلاع على لمحة عامة متمايزة عن العدالة التصالحية والعنف العائلي، انظر Strang and Braithwaite, 2002).

وأظهرت الأبحاث التجريبية بشأن الوساطة بين الضحية والجاني في حالات العنف الذي يرتكبه الشريك الحميم التي أُجريت في النمسا ارتفاع مستويات رضا الضحايا وإمكانية أن تؤدي العدالة التصالحية إلى تمكين المرأة وتعزيز عمليات التغيير في سياق العلاقات الحميمة (Pelikan, 2000؛ وPelikan, 2010). ولم يشهد ما مجموعه ٨٣ في المائة من النساء مزيداً من العنف على مدى العام ونصف أو العامين التاليين. ومعظم هؤلاء النساء (٨٠ في المائة) يعتقدن أن الوساطة بين الضحية والجاني أسهمت في منع المزيد من العنف (Pelikan, 2010). وبينت المزيد من الأبحاث التي أُجريت في النمسا أنه على مدى ثلاث سنوات في المتوسط بعد المشاركة في الوساطة بين الضحية والجاني، لم يعاود ما نسبته ٨٤ في المائة الإجرام، بل وبلغ هذا المعدل مستويات أعلى (٨٩ في المائة) في حالات العنف الذي يرتكبه الشريك الحميم (Hofinger and Neumann, 2008).

وقارنت دراسة تجريبية كبيرة في ألمانيا بين حالات العنف المن‍زلي وحالات أخرى تتناولها الوساطة بين الضحية والجاني، وخلصت إلى أنه في حالات العنف المن‍زلي، تحقق العدالة التصالحية نفس القدر من الفعالية الذي تحققه في الحالات الأخرى. وأفضت اللقاءات التصالحية إلى مستويات مرتفعة من الاتفاقات (٨٨ في المائة)، وفي معظم الحالات (٨٠ في المائة)، استُوفيت الاتفاقات بالكامل (Bals, 2010).

وكما تبين التجارب العملية، توفر العدالة التصالحية إمكانات واعدة في مجال العنف الجنساني، ما دامت هناك ضمانات تُنْفِذها بفعالية مؤسساتٌ لديها ما يكفي من القدرات والموارد لكفالة سلامة الضحايا على النحو الواجب، وما دامت نماذج الممارسات تستند إلى أفضل المعارف والخبرات المتاحة.

 
التالي: الموضوع الثالث: ما مدى فعالية العدالة التصالحية من حيث التكلفة؟
العودة إلى الأعلى